شهدت تونس خلال الأسابيع الماضية أحداثاً تدلّ على وجود رغبة حثيثة لدى الأطراف الماسكة بالسلطة في الانقلاب على سيرورة التحوّل الديموقراطي والعودة إلى المنظومة القديمة المبنيّة على الاستبداد والفساد. ولقد كان إصرار الغالبيّة القابضة على السّلطة على تمرير قانون مشبوه يشرّع لمصالحة مغشوشة تبيّض الإداريّين الفاسدين حتّى من دون محاسبتهم أو كشف مظاهر فسادهم وانعكاساتها، أهمّ أوجه هذه الأحداث.
غير أنّ صفحة تونس لم تخل في الوقت نفسه من علامات إيجابيّة، لعلّ أبرزها إفلاح عدد من الشابّات والشبّان في إذكاء الغضب وروح المقاومة لدى التونسيّين والتونسيّات. ظهر ذلك لمّا أفلح شباب «مانيش مسامح» (لا للمسامحة من دون المكاشفة والمحاسبة) في تنظيم أنفسهم بشكل أفقيّ، ومن دون الاستناد إلى بنية حركيّة أو حزبيّة، ونادوا بالتصدّي لقانون المصالحة المغشوشة الذي بادر إليه رئيس الدولة نفسه.
نجحت «مانيش مسامح» في تحريك الشارع العريض ليس في العاصمة وحسب، بل حتّى في مدن داخليّة. كما نجحت «مانيش مسامح» في أن تحدث نقاشاً، بل صراعاً حتّى داخل البرلمان كانت نتيجته أنه لم يتمّ تمرير القانون إلا بالحدّ الأدنى من الأصوات؛ أصوات المنضبطين الذين كان أمثالهم خلال زمن الكفاح من أجل الاستقلال يُنعتون بـ«بني نعم – نعم» («بني وي – وي») والذين أصبحت قائمة أسمائهم تتلى في الساحات موسومة بعبارة «الطحّانة» (القوّادون).
وفي غمرة الأحداث، تصاعدت وتائر مخالفة بعض بنود الدستور الجديد كاستمرار التعذيب وتواصل الإفلات من العقاب، وكالانتقائيّة في مكافحة الفساد، وكتأجيل الانتخابات البلديّة لتعطيل البدء في سيرورة الحكم المحلّي، وكانبثاق أصوات تنظّر لحتميّة مراجعة نظام الحكم للعودة به إلى مربّع الحكم الرئاسي الفردي وللتقليص من صلاحيّات الهيئات الدستوريّة المستقلّة.
غير أنّ كلّ هذه السلبيّات لم تستطع حجب تصاعد وتائر المقاومة الاجتماعيّة المدنيّة بمختلف أوجهها وإفلاحها في إحراج السلطة ودفعها إلى القبول بتقديم تنازلات لها أهمّيتها.
وفي هذا الصّدد، يعتبر المتابعون المهتمّون بحقوق الإنسان عامّة أنّ تونس حقّقت تقدّماً له وزنه في مجال إنفاذ العدالة بإصدار وزير العدل قراره المؤرّخ في 14 تموز/ جويلية 2017 القاضي بـ«الإذن للسيّد الوكيل العامّ بمحكمة الاستئناف بصفاقس بإحالة القضيّة الجنائيّة الاستئنافيّة عدد 1284 الصّادر الحكم فيها بتاريخ 16 كانون الأول/ ديسمبر 2004 على محكمة الاستئناف بصفاقس لإعادة النظر فيها»، ذلك أنّ إعادة النظر في قضيّة سبق الفصل فيها ليس شأناً معهوداً في تونس، وخاصة أنّ الأمر يتعلّق بقضيّة فُصل فيها ابتدائيّاً واستئنافياً وتعقيبيّاً وبالإعدام.
وتتعلّق هذه القضيّة بشابّ يدعى ماهر المنّاعي، رُفعت حالته إلى الرّأي العامّ بعد كشفها من قبل دراسة أمّنتها جمعيّة «معاً لمناهضة الإعدام» ونشرتها «دار سراس للنّشر» بالفرنسيّة سنة 2013 وبالعربيّة سنة 2014، تحت عنوان: «أموات مع وقف التّنفيذ. لماذا يجب أن نلغي عقوبة الإعدام في تونس؟».
وماهر المنّاعي هو شابّ من أسرة فقيرة «ألقي عليه القبض في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2004، وبعد محاكمة تشوبها مخالفات واضحة كان دائماً يعلن براءته، ولكن دون جدوى… لم يعد ينتظر شيئاً من المجتمع أو من العدالة البشريّة. وبينما هو ذات يوم في زنزانة تأديبيّة، صادف سجيناً حديث الاعتقال كان يتفاخر بأنّه ارتكب جريمة مع شخص متواطئ معه وتمكّن من الإفلات من ملاحقة الشّرطة».
ومن حينها، تجنّد المجتمع المدنيّ وتأسّست لجنة مساندة للتّعريف بحالة ماهر المنّاعي وللمناداة بإعادة النّظر في قضيّته. وظلّت تحرّكات لجنة المساندة وأطراف حقوقيّة أخرى بين مدّ وجزر ولم يجرؤ المتعاقبون على وزارة العدل على بتّ الملفّ. كما لم تف الرئاسة بوعودها بإطلاق سراح ماهر ولو استثنائيّاً باللجوء إلى آلية العفو الرئاسيّ.
غير أنّ ذلك لم يثنِ هيئة الدّفاع وعدداً من المؤمنين بأنّ انتهاك حقّ مواطن ــ ولو وحيداً ــ في سعيه إلى إثبات براءته والانتصاف بكلّ الوسائل المتاحة هو انتهاك للعدل عامّة، وفيه إدانة للقضاء برمّته، فواصلوا مساعيهم وتمكّنوا من العثور على أدلّة إضافيّة عزّزت جانبهم، حتّى كان قرار إعادة النّظر.
ويوم 18 أيلول/ سبتمبر 2017 انعقدت جلسة أولى تقرّر خلالها قبول اعتذار أحد القضاة عن عدم المشاركة في الأعمال لصلة كانت له بالقضيّة الأصل وتأجيل المرافعات إلى يوم 26 كانون الأول/ ديسمبر 2017.
ولعلّ ممّا يدعو إلى التفاؤل وممّا يبشّر بإمكانيّة تحريك السواكن والمضيّ قدماً في حلحلة الممارسات والعادات السيّئة التي كادت تصبح ثوابت أنّ أبوَي المتّهم والقتيل التقيا خلال الجلسة وكان بينهما حوار هادئ.