Skip to content Skip to footer

سيرة الصادق بن مهني

الصادق بن مهنّي، مناضل يساري وسجين سياسي سابق. يروي في سيرته السجنية كيف أنّه لم يَرَ من بلده إلا جربة وقابس وتونس العاصمة الّتي كان يقطن بها، وبعضا من المدن منها باجة وماطر وزغوان. ولكنّه خلال فترة سجنه ارتحل في دواخل البلاد حيث استقرّ فترة في سجن القصرين، وهناك تعرّف إلى السباسب ونبتة التين الشوكي “الهندي”، ثمّ استقرّ في الشمال في سجن برج الرومي ببنزرت، مع رفاقه. كان الصادق بن مهنّي شابًّا يافعًا في ذلك الوقت، يُمثّل صورة “الولد النبيه الناجح الذي ينتظره مستقبل واعد”، وفق ما ذكره في كتابه، نقلا عن جهة التحقيق.

انتمى الصادق  إلى تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس، أو حركة برسبكتيف الّتي تكوّنت سنة 1963، ولكنّه انشقّ عنها قُبيل اعتقاله في 1974. جمعت هذه الحركة كوكبة من طلبة الجامعات المنشقّين عن الاتحاد العام لطلبة تونس، وتكوّنت في باريس ثمّ ثبّتت أركانها في تونس سنة 1964، ووُصِفَت بأنها تقع على يسار الحزب الشيوعي. يقول شريف الفرجاني رفيق الصادق بن مهنّي: “وممّا قاله لي الصادق بن مهنّي ولم أكن أعلمْه قبل ذلك إنّه قُبيل إيقافه قرّر مغادرة منظّمة آفاق-العامل التونسي […] وممّا يستحقّ ذكره في هذا الصّدد أنّ الصادق، رغم اعتزامه مغادرة المنظّمة التي حُوكمنا بسبب الانتماء إليها، كان من القلائل ممّن لم يتكلّموا تحت التعذيب”. 

صمود ضدّ آلة القمع والتعذيب

قضى الصادق ستّ سنوات يتنقّل بين السجون وذاق ألوان التعذيب في أقبية وزارة الدّاخليّة، لكنّه أبى إلا أن يصمد، دون أن يترك فرصة لجلاديه حتّى يستلّوا منه كلمةً قد تُلحق الأذى برفاقه وذويهم. ظلّ صامتًا حتّى أنّ جلاديه ظنّوا أنّه فاقد للنّطق، وفرحوا لمجرّد أنّه ذكر اسمه. وصف مدّة حبْسه والتعذيب الّذي تعرّض له في كتابه بالقول: “هل كان جسمك يُعاند هو جسمك؟ وهل كُنتَ حينها أنت أنتَ؟ وهل كنت فعلاً بينهم رهْن رغبتهم تُلهب جِلْدَك سياطُهم وتدقّ أعضاءك عِصيُّهم وخراطيمُهم وقبضاتهم أم كنت قد ارتقيتَ؟ هل صحيح أنّكَ حينها كنتَ حقّا ذاك الفتى الصغير الضامر يتقاذفُوك كالكرة، يَصلُونك بنيران سجائرهم، يُعرّونك عنوة من كل ثيابك، يسلخون سمعك بأقذع السباب، يجرّونَك كالجيفة، يَهزّونك هزًّا يبغون اغتصابك، يضربون كل شبر منك، يستهدفون رأسك، يحقرونك…”. ثمّ انتهى به المطاف بالقول: “ومن يومها أحببت بدني”. كان السجن بالنسبة إليه خَلاصًا من قبضة التحقيق والتعذيب. كان يريد فقط أن ينام قليلا.

عنّ له أن يسرق حبّات طماطم من مؤونة رفاقه، وأن يعطيها لأحد مساجين الحقّ العامّ الّذي كان يقضي عقوبة سجنيّة مدى الحياة. فسمّى سيرته “سارق الطماطم” لتُضاف إلى المدوّنة السجنية المؤثَّثة سلفًا بـ”كريستال” لجيلبار نقاش و”الحبس كذّاب والحي يروّح” لفتحي بالحاجّ يحيى، و”سجين في وطني” لمحمّد الصالح فليس، و “من دروس الشيخ خليف بمسجد القيروان إلى اليسار الماوي” لأحمد كرعود، بالإضافة إلى كتاب محمّد الكيلاني لتاريخ المنسي، مذكرات مناضل وطني الذي تحدّث فيه عن رحلة السجن بين 09 أفريل وبرج الرومي 

 

نضال ضد التعذيب

خرج الصادق بن مهنّي من السجن سنة 1980 مع رفاقه فتحي بالحاج يحيى ونور الدين بعبورة ومحمّد الخنيسي، بعفو رئاسي لم يطلبوه ولكن اقترحه الحبيب بورقيبة الرئيس الأسبق الّذي دعاهم إلى القَصْر. كان التفاوض مع الرئيس ندّيًّا ولم تكن فيه مساومات، بل على العكس من ذلك فقد طلبوا من الرئيس إطلاق سراح بقيّة رفاقهم القابعين في السجون بسبب آرائهم وانتماءاتهم السياسية.

لم ينتهِ نضال الصادق بن مهني بخروجه من السجن، بل امتدّ ليشمل أبعادًا اُخرى. علّمته التجربة السجنيّة مراجعة الذّات، وحُبَّها، وتقديس الحقّ في الحياة، والدّفاع عنه، وتقدير قيمة الحريّة والنضال من أجلها، والانكفاء على الكتب والاستفادة منها. كان رافضًا لعقوبة الإعدام لأنها تتعارض مع مبدأ الحق في الحياة، وعبّر عن ذلك لرفاقه الّذين خاضوا إضراب جوع في سجن برج الرومي رفضًا للأحكام الصادرة بإعدام ضدّ عدد من المسلّحين فيما يُعرف بـ”أحداث قفصة” التي جدّت في جانفي 1980، إذ رأى أنّ رفض الإعدام لا يجب أن يقوم على أساس سياسي، بل انطلاقًا من قدسيّة الحق في الحياة. ساهم بعد خروجه من السجن في تأسيس فرع منظمة العفو الدّولية، واحتضن بيته اجتماعات نواتها الأولى. يقول في سيرته سارق الطماطم نقلا عن رفيقه النوري بوزيد “وتنشرح الآن إذ يُخالج سمعك صوت النوري بوزيد وهو يروي خلال الاحتفاء بالحصول على ترخيص إنشاء الفرع رسميا كيف أن “آمنيستي أنترناسيونال” هي في وعيكم الظاهر والباطن امتداد لـ”آبسيستي أنترناسيونال” مُشيرًا إلى تكاتُف أُسَرِكم لتوفير مؤونتكم وإلى الدّور الّذي أمّنته البسيسة في حمايتكم من المسغَبَة”.

شغف القراءة

كان الصادق بن مهنّي قارئًا نهمًا، حتّى أنّه خاض إضراب جوع عندما كان في حبس 09 أفريل للمطالبة بتوفير عدد من الكتب. لكنّ مرحلة النّضج اكتملت في سجن برج الرّومي الّذي يفتخر بكونه أحد خرّيجيه. كان يقرأ حتّى “المجلات الخليعة” وهو في سجنه، ويقرأ الروايات الكلاسيكية والحديثة، وكتب الفلسفة، وروائع الأدب اللاتيني والأمريكي، وقراءات عن محتشدات الحرب العالمية الثانية وغيرها. وكان السجن بالنسبة إليه حاضنة للنقاشات السياسية وإعادة التنظّم ومراجعة الأفكار وتقاسمها مع الرفاق.

عمِل الصادق بن مهنّي على تعميم الثقافة ودمقرطتها من خلال تسهيل نفاذها إلى السجون، عبر تأمين عروض أفلام بالتنسيق والتعاون مع المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، بحضور الصحافيين والاتصاليين لضمان انتشار المعلومة. في أحد العُروض بسجن المرناقية، لاحظ الصادق بن مهنّي أنّ ابنته لينا دخلت إحدى الغُرَف الّتي تبيّن فيما بعد أنّها مكتبة، لم يكن فيها سوى بعض الكُتب الصفراء وكتب أخرى بلغات أجنبيّة، ربّما لنُزلاء أجانب مرّوا من هناك. وكان ذلك حافزًا للينا ووالدها لمساعدة المودعين بالسجون على توفير كتب تكون لهم منفذًا وملجأ من عتمة السجن، وقرّرت لينا في البداية التبرّع بمكتبتها الخاصّة، ثمّ أطلقت حملة انخرط فيها العديد من المؤمنين والمؤمنات بهذه الرسالة، وبلغ عددُ الكتب منذ انطلاق حملة جمع التبرعات لفائدة الوحدات السجنية 45.000 كتابًا.

تطوّرت علاقة السجن بالكتب إلى أن أصبح حرّاس السجن يخضعون إلى تكوين في المكتبيّة لمسك سجلات الكتب الوافدة وتبويبها، والكتب التي لا يتمّ توزيعها في السجون تستفيد منها الأحياء الشعبيّة والمؤسسات التربوية والجامعات.

بعد وفاة لينا في 27 جانفي 2020، قرّر والدها الصادق بن مهني وأصدقاؤها وصديقاتها مواصلة الرسالة الّتي آمنت بها وسعت إلى تحقيقها وتعميمها، عبر تأسيس جمعيّة تحمل اسم الفقيدة، تشتغل على العديد من المواضيع ومنها مواصلة جمع الكتب وتنظيمها وإرسالها إلى المساجين العرب خارج تونس، لاستكمال أعمالها ونضالاتها

علاقة لينا بن مهني بالصادق، والدها

لم تكن علاقة لينا بأبيها علاقة كلاسيكية، بل كان رفيقها وسندها وداعمها الّذي لا يكاد يفارقها، مدفوعًا بمشاعر الأبوّة ومؤمنًا ببذرة النضال الّتي نَمَت داخل لينا وكبُرت معها، والتي رسّخها فيها بطريقة غير مباشرة. 

ظلّ يكتب عنها وإليها دومًا، كصديق وفيّ، وأب مشتاق، ورفيق درب قُصم ظهره بغيابها. يناديها، لينا الصامدة، لينا صديقة الجميع، لينا الباسمة من وراء الحُجُب، لينا بنت الجميع وأخت الجميع، رفيقة الأرض ومن على الأرض، لينا المتموّجة، لينا المُجمِّعة. 

شعُر بالسعادة عندما أُطلقت جائزة “لينا بن مهنّي” لحقوق الإنسان بعد رحيلها، وعندما أنصفتها العدالة ولو بعد حين، بإدانة أعوان الشرطة المتورّطين في تعنيفها في أوت 2014. 

كتب لها نصًّا في 03 أكتوبر 2011، عندما تمّ ترشيحها لنيل جائزة نوبل للسلام، نشره في 12 مارس 2022 بعد رحيلها، وقال:

“إلى لينا بن مهنّي المرشّحة لجائزة نوبل!

عزيزتي لينا, بل عزيزتنا لينا !

معك حقّ في أن تتمرّدي دائما وكلّ مرّة وبسبب وبدون سبب.ومعك حقّ في أن تكوني متنمّرة, متوثّبة حتّى والبحر هادئ. ومعك حقّ في أن تتخلّصي من الأب ( ولا أقول الوالد إذ أنّ الرّجال لا يلدون) وأن ترفضيه و تلفظيه وتقصيه ما دام في ذلك ما يدفعك أكثر.

ولأنّ معك الحقّ في كلّ ذلك فإنّ كلماتي هذه لن تكون كلمات الأب إلى ابنته, بل كلمات تونسيّ جذل بشباب بلاده سكران بما وهبوه إيّاه من حرّية تعبير ,فرح بإطلاله على حقّه في المواطنة ,وفخور ألف فخر بأنّه تونسيّ ,قلبا ودما,وفعلا, وأحلاما , وحتّى النّخاع , وسرّا وعلنا ,ظاهرا وباطنا.

كتب في رثائها كلامًا كثيرًا، هو أشبه بالمناجاة. خاطبها وتحدّث إليها وأكْبَرَ نضالها وتغلّبها على الوجع واعتذر منها.

كتب فيها:

نعم لقد فهمتك وأحسستك واحترمت خيارك، وأنا الآن منبهر بصبرك وجَلدك وقدرتك على تحمّل الوجع والضّيق والانسداد، وفهمت أنّك جنّبتنا جزعا في الدّار أو في الطّريق أو هنالك حيث تركناك.

ما أحلى وداعك الأخير: بسماتك، تشجيعاتك، إصرارك على أن تظلّي واقفة حتّى النّفس المعلن عن الخبر اللّعين.

كم كانت قسمات وجهك مطمئنّة وبشوشة وكم حكت لي عيناك في لحظة من حكايا وانتصارات وانطلاق عنيد.

لينا الجسورة!

لينا الحبيبة!

سأظلّ أحيا لحظاتك الأخيرة أتردّد بين إشفاقي على نفسي لأنّي لم أعرف هذه المرّة كيف أحميك وبين فرحي لأنّك اخترت ساعتك وتهيّأت لها وواجهت الرّحيل مبتسمة.

وكتب أيضا:

لينا

أنت المتوثّبة على كومة جسد منهك

لينا

على صفحة ماء

على أوتار حزينة

لينا الرّاكضة في ساحات النضال

الصّاعدة على كفّ الألم

لينا

القابضة على الجمر

تلاعب الحياة بالموت

يراوغها فتراوغه

لتهزمه أو تؤجله

الرحلة: بين القمع والمرونة

Lorem Ipsum is simply dummy text of the printing and typesetting industry. Lorem Ipsum has been the industry’s standard dummy text ever since the 1500s, when an unknown printer took a galley of type and scrambled it to make a type specimen book. It has survived not only five centuries, but also the leap into electronic typesetting, remaining essentially unchanged. It was popularised in the 1960s with the release of Letraset sheets containing Lorem Ipsum passages, and more recently with desktop publishing software like Aldus PageMaker including versions of Lorem Ipsum

الالتزام: إرث المقاومة

Lorem Ipsum is simply dummy text of the printing and typesetting industry. Lorem Ipsum has been the industry’s standard dummy text ever since the 1500s, when an unknown printer took a galley of type and scrambled it to make a type specimen book. It has survived not only five centuries, but also the leap into electronic typesetting, remaining essentially unchanged. It was popularised in the 1960s with the release of Letraset sheets containing Lorem Ipsum passages, and more recently with desktop publishing software like Aldus PageMaker including versions of Lorem Ipsum

الموت والإرث

Lorem Ipsum is simply dummy text of the printing and typesetting industry. Lorem Ipsum has been the industry’s standard dummy text ever since the 1500s, when an unknown printer took a galley of type and scrambled it to make a type specimen book. It has survived not only five centuries, but also the leap into electronic typesetting, remaining essentially unchanged. It was popularised in the 1960s with the release of Letraset sheets containing Lorem Ipsum passages, and more recently with desktop publishing software like Aldus PageMaker including versions of Lorem Ipsum

المزيد للاستكشاف

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا