يوم 21 ديسمبر 2009 تمّ إصدار الحكم في قضيّة تتعلّق بطلبة تونسيين مثلوا أمام المحكمة فيما يعرف بقضية طلبة منوبة لا لشيء إلاّ لاعتصامهم بمبيت جامعي كحلّ أخير وجدوه للمطالبة بحقّ زميلاتهم من الطالبات في سكن جامعيّ. و قد كان من بين المحاكمين أربع فتيات, قضت المحكمة بسجن كلّ واحدة منهنّ لمدّة عام كامل و رغم أن شعوب العالم احتفلت يوم 10 ديسمبر 2009بالذكرى الواحدة و الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان و احتفلت يوم 17 ديسمبر 2009 بالذكرى الثلاثين لإصدار الاتفاقية الدولية الخاصة بإلغاء كافة أشكال التمييز المسلط على النساء إلاّ أنّ انتهاك حقوق النساء والإنسان ما يزال مستمرّا. و من المفارقات أيضا تزامن الإعلان عن الأحكام مع الإعلان عن تبنّي الجمعية العامّة للأمم المتحدّة لاقتراح تونس سنة 2010 كسنة عالميّة للشباب. فطوبى لتونس بشباب وراء القضبان. فكيف يلقى بشبّان و شابات في الزنازين لمطالبتهم بأبسط حقوقهم و أكثرها شرعيّة ؟ و كيف تنتهك حقوق الإنسان عامّة و حقوق النساء خاصّة لمجرّد مطالبتهم بحقّ شرعيّ تكفله المادّة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الأنسان و هو حقّ المسكن : لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته.كما أنّ حقّ السكن هو حقّ معترف به دستوريّا و بالتالي فإنّ تحرّك الطالبات و الطلبة من أجل التمتّع بالسكن حقّ مشروع و ليس جرما يعاقب عليه القانون فهو يندرج في صميم الدفاع عن الكرامة الانسانية و لا يمكن تجريمه.
و من هنا و جب الحديث عن معضلة السكن الجامعي في تونس و سأهتمّ بوضعية الفتيات
نظرا لفداحة المشاكل و تعدّد المخاطر التي تواجهها الفتيات في حالة انعدام مكان للسكن.
ففي بداية كلّ سنة جامعية جديدة تذهب الفتيات الناجحات في امتحان الباكالوريا حديثا إلى مؤسساتهن الجامعية و إلى دواوين الخدمات الجامعية و الأمل و الفرح ببداية مرحلة جديدة من حياتهن يملؤهنّ. و لكنّ الفرحة سرعان ما تتبخّر و تتحوّل إلى إحباط و يأس. ففي بداية كلّ سنة و ما إن تمرّ أمام ديوان الخدمات الجامعية حتّى يلفت نظرك و يستوقفك مشهد صفوف طويلة من الشبّان و الشابات الذين حوّل التعب ابتساماتهم إلى ملامح يأس و حزن و لفحت أشعّة الشمس وجوههم و أعياهم الانتظار. طوابير و طوابير لا تنتهي .فهم عادة ما يصلون هناك و قد أجهدهم تعب السفر و الحرمان فهم عادة ما ينتمون إلى عائلة ضعيفة الدخل و يعيشون ظروفا اجتماعية ضاغطة يعتمدون على ميزانيات ضعيفة عادة ما تبدّدها عبارة :”أرجع غدوة” المرادفة إلى تعدّد التنقلات و بالتالي ارتفاع مصاريف التنقّل و ما تخلّفه من إفلاس. وعادة ما يقفون في الصفوف و يعيدون الكرّة أيّاما و أيّاما لتكون الإجابة النهائية لمطالبهم بالسكن بالنفي ليجدن أنفسهنّ في الشارع و قد تحطّمت امالهنّ و تبخّرت أحلامهنّ. ففي تونس عادة ما يمنح السكن للطالبات لمدّة سنتين ثمّ يوكل إليهنّ أمر البحث عن مكان يلتجئن أليه. و في بعض الأحيان تحرم الفتيات من هذا الحقّ حتّى خلال السنتين الأولتين من دراستهنّ بدعوى عدم توّفر أماكن لهنّ. و هذا ما قد يؤثّر سلبا على مسارهنّ الدراسي و حتّى على حياتهنّ الاجتماعية . فانعدام المسكن يهدّد أمنهنّ النفسي و الجسديّ و الجنسي . فعادة ما تعجز العائلات عن توفير المبالغ اللازمة لتتسوّغ بناتهنّ غرفا خاصّة يسكنّ فيها خلال فترة دراستهنّ ممّا يدفعهنّ إمّا للانقطاع عن الدراسة و العودة إلى مساقط رؤوسهنّ قاتلات بذلك أحلامهنّ و أحلام عائلات كاملة بمستقبل أفضل و بعيش كريم أو يلتجئن للبحث عن عمل عادة ما يصرفهنّ عن دراستهنّ و كثيرا ما تستغلّ بعض الذئاب البشرية يأس هؤلاء الفتيات و سذاجتهنّ و تستغلّهنّ جنسيا و تدفعهنّ نحو الهاوية. فخلال دراستي بالجامعة شهدت تحوّل بعض زميلاتي من فتيات عاديات من عائلات مفقّرة إلى فتيات يلبسن ملابس فاخرة و يتبرّجن بطريقة لا تليق بطالبات جامعيات , تنتظرهنّ سيارات فخمة عتد خروجهنّ من الفصل و عادة ما ينقطعن بعد مدّة عن الدراسة . و لفضولي استقصيت عن الحقيقة و لمّا عرفتها آلمني ما آلت إليه حالهنّ. و من خلال الحديث مع فتيات أخريات عرفت قصص عذابهنّ مع السكن فمن ساكنة مع عائلة من أقاربها يتفنّنون في إهانتها و تذكيرها بفضلهم عليها و قاطنة مع فتيات لا يحترمن راحتها و حاجتها إلى الهدوء من أجل التركيز على دراستها , إلى أ خرى أكثر حظّا منحت سكنا جامعيّا ولكنّ ظروف هذا السكن لا تليق أبدا بإنسان فسمعت عن حرمانهنّ من الكهرباء في غرفهنّ أحيانا و سمعت عن إغلاق الأدواش أحيانا أخرى و ما ينجرّ عنه من انتشار لبعض الأمراض الجلديّة و الأوبئة. أمّا الان و أنا أدرّس قد أستاء عندما تخبرني إحدى الفتيات أنّها لم تقم بواجبها المنزلي و لكنّ غضبي سرعان ما يتبخّر عندما أعلم أنّ إدارة المبيت الجامعي قرّرت قطع التيار الكهربائي في اللّيلة السابقة فمشهد العشرات من أجهزة الهاتف الجوّال التي تشحن في الفصل صار مشهدا عاديّا في الجامعات التونسية نظرا لأنّ إدارات المبيتات تمنع الطلبة حتّى من شحن هواتفهم و الأمثلة عديدة و متعدّدة.
فمتى ستعيش فتيات بلدي من طالبات العلم في كرامة و متى سيمكنّهنّ التركيز على دراستهنّ ؟ و متى سنحميهنّ من ترصّد الذئاب البشرية لمصائبهنّ لاستغلالهنّ؟ و متى سنكفّ عن اضطهادهنّ و إلقائهنّ في السجون لمطالبتهنّ بأبسط حقوقهنّ؟ فكان الأحرى بنا أن ندرس وضعيات هؤلاء الطالبات و نحاول إيجاد حلّ عوض أن نلقي بهنّ في غياهب السجون و نقضي على مستقبلهنّ و مستقبل عائلات كاملة عادة ما تضحّي بالغالي و النفيس من أجل أن ترى أبناءها يبنون مستقبلهم.