Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

قراءة  في كتابين و قراءة في نفسي

أنهيت للتوّ قراءة كتاب « مترو حلب » للروائية السورية مها حسن و كالعادة التهمت الكتاب في وقت قياسيّ و لكنّه ظلّ يسكنني فخوض هكذا تجربة في القراءة  ليس بالأمر الهيّن أو السهل خاصّة في خضمّ ما نعيشه من أحداث على الصعيد الوطنيّ و العالمي . بدأت قراءة الرواية مباشرة بعد قراءة كتاب آخر يتناول موضوع الحرب و أنا أتحدّث عن « مذكرات حرب » كتبتها سعاد العميري و عنونتها : »كابوتشينو في رام الله » و قد التهمت ذاك الكتاب في نسخته الفرنسية في ساعتين أو أقلّ . نعم صرت ألتهم الكتب هربا من الأخبار و من شبكات التواصل الاجتماعيّ وكلّ القرف الذي نعيش فيه. نعم وجدت في الكتب التي ابتعدت عنها نوعا ما في السنين الأخيرة ملاذا و مهربا و ميناء سلام. لكن الكتابين مازالا يسكنان داخلي بل و يقضّان 

مضجعي حتى أنّ الكوابيس لازمتني و جعلت نومي متقطّعا

 أهو الخوف ؟ أهو تأثير مشاهد الحرب و الدمار التي أتقنت الكاتبتان، كلّ بطريقتها، رسمها بالحروف والكلمات  فالجمل و الفقرات ؟ أهو الحديث عن الرصاص والقنابل والحواجز الأمنية والمدافع والرشاشات وجثث المدنيين المتراكمة هنا و 

في فلسطين و في سوريا ؟

لا أعتقد أنّ ما أقضّ مضجعي هو الخوف أو أيّ من الأسباب التي ذكرت أعلاه بل هو الشعور بالعجز أمام الخراب والحرب والمنفى وعبثية الحياة والقدر. نشاهد يوميا كمّا هائلا من البشاعة و الفظاعة. نأكل، نشرب ونلتهم الإفطار أمام شاشاتنا التي تنقل لنا مباشرة صور حمامات الدم والأشلاء الآدمية المبعثرة هنا و هناك حول الكرة الأرضية و خاصة في الأراضي العربية. قد نذرف دموعا وقد نكتفي بالتعليق فقد أصبحت هذه المشاهد قدرنا اليوميّ حتى طبّعنا معها و صارت حالة عادية. و حتى أنّنا بتنا نستغرب إذا لم يبلغ مسامعنا خبر تفجير هنا أو مجزرة هناك . قرأت الكتابين و فيما بينهما ضرب الإرهاب في وطني . اختطف راع  ليعثر على جثّته بعد يوم . نعم قتل خليفة السلطاني ليلتحق بأخيه الراعي  الذي اختطفت أيادي الارهاب روحه منذ أكثر من عام. و هاهي زعرة أمّ ثكلى مرّتين . من الحرب الى الحرب من الاغتراب الى الاغتراب من عبثية الحياة الى عبثية الحياة . فالغربة يمكن أن تعاش في الوطن و ها أنا أشعر بالغربة في وطني .إحساس بالغربة خلت أنّني تخلّصت منه  نهائيا مع صعود الديكتاتور في الطائرة ولكن هيهات. تسارع الأحداث و تواليها أثبت لي أنّني لازلت هنا غريبة. فأنا لست مواطنة بعد ولا أعرف عن الحريّة والشغل والكرامة الوطنية شيئا رغم ما تحمله إليكم شاشاتكم من نجاح الثورة التونسية ومن إرساء للديمقراطية ومن العدالة الانتقالية. فلا نوبل للسلام ولا التصفيق والانحناء أمام انجازات الشعب التونسي كفيلة بتغطية الحقيقة خاصّة بالنسبة للمهمّشين والذين كانوا وقود المعركة حين خرجوا للشوارع مواجهين الرصاص الحيّ و جنون قوّات الأمن المتغطرسة التي زادت غطرستها يوما بعد يوما فباتت تبثّ الرعب في نفس الجميع عوض أن تقوم بدورها في حمايتنا نحن المواطنين. فالحال هو الحال والوجع هو الوجع  والطعم هوالطعم. طعم المرارة والعلقم مع بهارات بطعم الدم والإرهاب . وأنا أتحدّث عن الشغل و الحرية و الكرامة تعود إلى ذهني بعض أحاديث تبادلتها مع صديقتي و حبيبتي، والدتي مينا و نحن نتسامر ليلة أمس.  حدّثتهم أمّي عن لينا الطفلة تلك التي تعضّ أياديها حتى تدميها إذا ما اغتاظت وتلك المتمرّدة التي هربت وهي في سنّ الثانية ولم تخف من الشارع، ذلك العالم الغريب عليها. ولينا التي قامت بكسر باب الحديقة لتتمكن من الهروب والخروج للالتحاق بأصدقاء يقطنون في نفس الشارع ولينا التي تسوّرت سياج الحديقة  رغم قصر قامتها لتخرج وتعانق الشارع والحياة خارج سور المنزل . هكذا أنا متمردّة. رافضة لكلّ أنواع القوانين والحواجز وتوّاقة للحرية وحرية التنقّل. لا أعرف لماذا أتحدّث عن نفسي هنا وأنا التي بدأت هذه التدوينة للحديث عن كتاب فكتابين فها أنا أقصّ دواخل نفسي.

هما راويتان و كاتبتان و أنا أكتب لأعبّر. أكتب لأرتاح. أكتب لأقصّ بعض من همومي وهموم بعض من بنات وأبناء وطني. جمعتنا الثورة. ثورة على المحتلّ بأنواعه. محتلّ صهيوني و دكتاتور و دواعش 

جمعتنا الغربة غربة جغرافية وغربة هوية  

تروي لنا مها حسن حياة سارة الفتاة السورية التي شاء ت الأقدار أن تهاجرإلى  باريس دون رغبة منها في ذلك و دون أيّ أدنى تخطيط للابتعاد عن حلب و ذلك  بعد مدّة قصيرة من انطلاق الثورة السورية  و التي تعجز الكاتبة عن ايجاد الاسم 

الصحيح لها فأغلب السوريين  صاروا عاجزين عن ايجاد الاسم الصحيح لما يدور في وطنهم فصار الأغلبية يسمّونها أحداثا  

.  

تروي لنا مها قصّة سارة بأصوات متعدّدة. هدهد، الخالة، الأمّ و أمينة الأمّ ووليد وعادل وغيرهم من الشخصيات. وتسيطر النسوة على الأحداث ليكنّ الشخصيات الرئيسية. و تسافر بنا الكاتبة بين باريس وسوريا وتحديدا حلب و دمشق وتتوقّف بنا أحيانا في اسطمبول أو تمرّ بنا  برهة إلى السويد وهي بلدان استقبلت وتستقبل المهاجرين السوريين الفارين من قدر محموم، دام و مجنون. تجد سارة نفسها في باريس صدفة مع خالة خالتها التي ماتت منذ زمن بعيد لتتعقّد الأمور شيئا فشيئا و لتكتشف أشياء غابت عنها أو غيّبت عنها طوال 30 سنة عاشتها في حلب حيث ولدت و نشأت و عاشت 

وهي تروي لنا قصّة سارة و تأرجحها بين حياتها الجديدة في باريس ورغبتها الجارفة في العودة إلى حلب، تكشف لنا الكاتبة عن جحيم الحرب في سوريا و عن المعاناة اليومية للسوريات و السوريين وعن حيرتهم أمام الأحداث  والحرب التي اجتاحت الوطن و تكشف لنا عن دواخل سارة ونظرتها لما يحدث هناك فتكتب : « الثورة رفعت أشخاصا من القمامة النفسية والفكرية والاجتماعية ووضعتهم في المقدّمة. الثورة كانت طوفانا ضخما قلب كلّ شيء, لكنّه لم يكن طوفانا عادلا كما هي الطوفانات العشوائية المجنونة. طوفان الثورة ألقى بالبقايا السيّئة صوب الخارج, و ابتلع أفضل السوريين. الذين ماتوا من أجل الثورة, هم أنبل منّا جميعا. أولئك ماتوا ونحن فزنا بحياة آمنة في الغرب. أما الباقون هناك, فهم ينتظرون هبّات الطوفان, التي إما تبتلعهم وتقذفهم صوب الموت أو ترميهم  على شاطئ النجاة : أوروبا الفاخرة. »   

و هي بذلك تنتقد بعضا من السوريين الذين يحاولون لعب دور زعامة الثورة  في أوروبا متغاضين عن آلام السوريين الذين 

تركوا خلفهم في جحيم الحرب 

و أنا أقرأ تلك الأسطر، أرحل من سوريا وأحطّ في وطني تونس. وتطالعني صور الشهداء و صور أمهات ثكلى تناسى الجميع قضيّتهنّ. فخرج علينا ساسة يدعوننا باسم الرخاء الاقتصادي ّ إلى التصالح مع المافيا الفاسدة دون حساب أو عقاب ضاربين عرض الحائط كلّ أركان العدالة الانتقالية و مبادئ الديمقراطية. هؤلاء هم نفسهم الذين ترفعهم الثورة من القمامة النفسية والفكرية والاجتماعية  ليجدوا أنفسهم في مراكز القرار وفي أماكن مرموقة فيتناسون فضل المضحّين الحقيقيين في سبيل الثورة والتغيير. أقرأ تلك السطور فأسمع نواح الأمّهات وأنين الجرحى وأمقت نفسي.

نعم فنحن. أنت وأنتم وأنا ونحن عاجزون على إعلاء صوت الحقّ

سارة غريبة في باريس و كم أنا في وطني غريبة 

كم كان الحلم جميلا و كم هي مؤلمة النتيجة 

تتفاوت الأضرار وتتعدّد درجاتها ولكنّ الألم واحد والغربة واحدة

 لحظة فارقة وفاصل 

لمدّة 7 سنوات عرفت الناس الخطأ. أخذت القرارات الخطأ. وأكلت الأطعمة الخطأ و اشتريت الحفظات النسوية الخطأ. ذهبت إلى الأماكن الخطأ. ووهبت قلبي إلى الأحبة الخطأ و منحت ثقتي للأشخاص الخطأ. تغيّرت العديد من الأشياء في حياتي بعد الثورة فقط  مبادئي  وعطري لم يتغيّر. أستعمل نفس العطر منذ أكثر من عقد و حتى يوم قررت تغييره، سرقت القارورة الجديدة من حقيبتي في مطار تونسيّ. تشبّثت بمبادئي و لازلت أتشبّث بعطري و لكن لا شيء يحيط بي سوى العدم

 كنت مخطئة عندما اعتقدت أنّ الأغلبية يتقاسمون الحلم مع الشباب الثائر على غطرسة و تجبّر دكتاتور. كنت مخطئة حين اعتقدت أنّ الساسة فهموا اللعبة و استخلصوا الدرس

مخطئة كنت لمّا اعتقدت أنّ الساسة سيسعون إلى تحقيق مطالب الثورة و ثوّارها. وأنّهم سيتنافسون للقضاء على الفقر والتهميش. مخطئة لما اعتقدت أنّ شباب وطني سيعرف أيّام خير وأنّ الجميع سينحنون إجلالا أمام تضحياتنا ومساعينا إلى وطن جميل 

كلّنا نخطئ و لا عيب في  ذلك 

مخطئة أنا الآن وأنا أعتقد أنّني تصالحت مع كلماتي واسترجعت قدرتي على الكتابة. فأنا أهذي لا غير. كنت مخطئة لمّا اعتراني نفس الشعور منذ أسبوعين. إذ حبّرت 10 صفحات و أنا على متن طائرة تربط بين  اسطنبول وتونس في رحلة عودة من بيروت تلك المدينة التي طالما ألهمتني بجمالها وتحرّرها وصخبها وتعدّد ألوانها ولكن ملهمتي ابتعدت عنّي ساخرة ما إن حطّت الطائرة في تونس. فأعدت قراءة ما كتبت مرات ومرات و كلّي أمل في استرجاع رغبتي و قدرتي على الكتابة و لكن هيهات

شيء ما كسر داخلي. انهيارات و رجّات أرضية  فخراب كليّ

نحبّ الوطن فهل يحبّنا الوطن ؟

حتى متى سنموت ليعيش الوطن؟ أو لسنا الوطن ؟

لنعيش و يعيش الوطن

كفانا موتا و دما و خرابا و ألما  

غريبة أنا في وطن نحن فيه أرقام لا غير. غريبة في وطن لا يحترم الحريات و الاختيارات الشخصية و ينبذ الحبّ و يعاقب المحبّين. غريبة أنا في وطن يتفاخر ساساته بدستور جديد ثوريّ و يزجّون الناس في السجون بقوانين بالية لا علاقة لها بالدستور. غريبة أنا في وطن رخص فيه الدم. غريبة أنا في وطن تسخّر فيه مؤسسات الدولة وإمكانياتها لاقتحام غرف النوم  في البيوت الخاصة ويعجز الجميع عن إيقاف نزيف الدم وعمليات القتل ومقاومة وحش الإرهاب ولكن هل يقاوم الإرهاب بالإرهاب؟ وهل بإمكاننا الاعتماد على إرهابيين لمقاومة الإرهاب؟ 

تقول سارة في نهاية الكتاب: الإقامة والاستقرار في المكان ترف لا نمتلكه نحن أبناء الحرب. نسعى من محطّة إلى محطة من هذه المنافي حاملين معنا أراح تسكننا من كلّ محطّة. عليّ التنقّل من مترو باريس إلى محطة حلب و العكس.

وأقول ما جدوى الاستقرار في مكان يخنقنا ويقتلنا يوما بعد يوما. الغربة موجعة غربة المكان و غربة الروح 

فعل القراءة متعة ولكنّ المتعة قد تكون موجعة تماما كمتعة الجماع لذيذة وموجعة. قرأت الكتابين هربا من ألم الحياة وأوجاع الوطن ولكن ها أنا الآن أحمل آلامي وآلامهنّ أمينة وهدهد وسارة وهالة و رولا وآلامهم ووليد وعادل ولوركا وذاك الصبي المجهول الذي غرق في البحر بعد أن أخذته عائلته في قارب مطاطي من سوريا إلى المجهول هربا من حرب 

حوّلت الحلم إلى كوابيس وتلك الفتاة التي سقطت في غزّة وذاك الشاب الذي مزّق الرصاص جسده في القدس وكلّ المجهولات والمجهولين في سوريا في العراق وفي فلسطين وذاك الرضيع الذي قتلته المجاعة في اليمن

موجع هو فعل القراءة  

By lina ben Mhenni à juin 04, 2017 

Add Comment